في الوقت الذي بدأت فيه مطاحن دمشق تتعافى تدريجياً، وتؤمّن مخزونها من الدقيق، تتعالى الأصوات مطالبةً بإنهاء العلاقة “غير الشرعية” بين السورية للحبوب “قبل الدمج مع المطاحن والصوامع”، والمطاحن الخاصة في المحافظات كافة.
هاشتاغ-ايفين دوبا
وعلى وجه الخصوص في حلب؛ حيث بدأت تلك العلاقة منذ بداية 2017، وأثمرت عن “ولادة” صفقات فساد وصل صداها إلى “هاشتاغ” عبر موظفي فرع (السورية للحبوب – فرع حلب) الذين اتهموا إدارتهم بالتخلي عن دورها ومسؤوليتها، والعمل لصالح المطاحن الخاصة في المدينة.
ويقول هؤلاء في أحاديثهم لـ”هاشتاغ” إنه “تتم عملية استلام حمولات الطحين السيء بلا تحليل من قبل المخبر التابع للسورية للحبوب، الذي ما زال بدون مدير حتى اللحظة، إضافةً إلى وجود العديد من المخالفات في عقود الطحن مع المطاحن الخاصة فيما يخص شحن الأقماح من المراكز إلى تلك المطاحن”.
وتفيد مصادر خاصة ومطلعة على جداول تسليم الأقماح للمطاحن الخاصة بحلب، وجود نقص في درجات الثقل النوعي للأقماح تصل إلى ما يقارب 70 في المئة، إضافةً إلى ارتفاع الرطوبة في فصل الصيف لأكثر من 13 في المئة، وارتفاع “الكسر والضامر” إلى ما فوق 9,5 في المئة، وكل تلك العمليات تتمّ و”عيون الرقابة نائمة” لتكون النتيجة “خبز حلبي لا يمكن هضمه”!
الإدارات.. و”التريب”
بدأت العلاقة بين المطاحن الخاصة والمؤسسة السورية للحبوب قبل الدمج في عام 2017 بعد أن طال التخريب الممنهج مطاحن الدولة من مصدرين: الأول هو المجموعات المسلحة، والثاني المتمثل بالإدارات السيئة التي تعاقبت على المطاحن، ما تسبّب بوجود إهمال مقصود وعدم إجراء عمليات الصيانة اللازمة، وكذلك تسبب بهدر وفساد في المال العام.
وتعمل الحكومة على التعاقد مع المطاحن الخاصة لتأمين الدقيق التمويني بسبب عجز المطاحن العامة على تأمينها “حسب تصريحات المعنيين”، وتنتشر المطاحن الخاصة في محافظات عدة، منها طرطوس وحماة واللاذقية وحلب.
وتضم حلب أكبر عدد من المطاحن الخاصة، وتورّد كميات كبيرة لباقي المحافظات مثل دمشق ودرعا وأحياناً إلى حماة، إلّا أنّ عمليات التعافي التدريجية التي بدأت تعيشها مطاحن دمشق بعد رفع طاقتها القصوى أدّى للاستغناء عنها في الفترة الحالية، لكن الفساد في عمليات المطاحن الخاصة بحلب لم يتوقف، حسبما تؤكد مصادرنا، ولم تتعلم من الدرس الي حصل في دمشق بعد تخريب مقصود لمطاحن الدولة من أجل الاعتماد على المطاحن الخاصة.
كيف تتمّ السرقة؟
تتعدّد طرق السرقات التي تحصل في بعض مطاحن حلب الخاصة، وحسب الشكاوى التي وصلت إلى “هاشتاغ”، فقد تمّ إعداد العديد من التقارير التي تتحدث عن الموضوع من قبل موظفي فرع المؤسسة السورية للحبوب، بهدف الوقوف على حقيقة الأمر من الجهات المعنية، وسنحاول عرض بعضٍ منها في هذا التحقيق:
أوّل تلك العمليات تتعلق باستلامات الاقماح وتغيير درجاتها؛ حيث يتم اللعب بما يسمى “الإجرام والشوائب” من قبل بعض المطاحن الخاصة، والتي تعمل “حسب الدراسة” على إدخال الأقماح (نوع ثالث أو رابع) فيما الواقع يقول إن الأقماح الداخلة هي من الدرجة الأولى أو الثانية، وبذلك تستفيد من مجموع الإجرام والشوائب والتي تصل إلى 15% عبر تبديل الدرجة.
وفي وقت سابق، لما كان الشعير سعره أقل من القمح كان يتم طحن الشعير بنسبه 10% وسحب ما يقابلها من القمح القاسي “ديورم عنبري بلوري” 100% وبما أن الشعير أغلى من القمح حالياً، كان لا بدّ من البحث عن مصادر أخرى للعبث بالمادة، كما تقول الدراسة.
وتشرح الدراسة بالأرقام موضوع اللعب برطوبات الأقماح الداخلة، حيث يتم تسجيلها بدرجات تتراوح من 10 إلى 13 درجة حسب الرغبة، وإذا ما تمّت المقارنة للأقماح المشحونة لليوم نفسه والتاريخ والمصدر لجهات مختلفة ستظهر “العجائب”؛ حيث تظهر فروقات كبيرة للتسجيل بين المطاحن العامة والأخرى الخاصة وهي تشكّل نسبة 3%كحد أدنى تحت بند “السرقة”!.
وتورد التقارير التي وصلت إلى “هاشتاغ” عن عملية تبديل الأقماح القاسية “الديورم بلورية عالية” والتي تصلح لصناعات البرغل والمعكرونة والأندومي بأقماح أقل مواصفة أو ككسرة أقماح أو كنواتج غربلة أيضا يتم إدخالها في عمليات الطحن.
“لعب” المطاحن الخاصة!
في الوقت نفسه، تشير الدراسة التي تقدم بها العاملون في فرع السورية للحبوب بحلب، ووصلت نسحة منها إلى “هاشتاغ” إلى شراء بعض المطاحن الخاصة أيّ أقماح متدنية المواصفات واستبدالها بأقماح سليمة، وهذه تشكّل أرقام مخيفة جداً، ما يفسّر رداءة الدقيق الناتج عن القمح وارتفاع اللون بالمقارنة مع مطاحن الدولة لمصدر الأقماح نفسه.
وبالنسبة إلى الإخراجات، فأغلبها يتم عن طريق اللعب برطوبة الدقيق “حسب الدراسة”؛ حيث تصل إلى نسبة تزيد عن 17% أي بزيادة من 3 إلى 4% وهذا ما يتم ملاحظته من قبل المخابز بعد التأكد من عدم قابلية الدقيق لامتصاص الماء بالقدر المطلوب، ما يتسبب بخسارة كبيرة للأفران، كما يلجأ أصحاب المطاحن الخاصة إلى وضع بخاخات للمياه عند نهاية خط الإنتاج لترطيب الدقيق والنخالة. والنواتج، مع إضافة الحصى والأتربة، وهذا يشكل رقماً كبيراً تقدره الدراسة بـ 5% من مجمل الخسارة الناتجة.
يضاف إلى جملة المشكلات السابقة، اللعب بالوزن، فبدلاً من 50 كغ يكون الوزن ناقص 500غ بالحد الأدنى ، وعند بيع النواتج تنحصر عملية البيع لصاحب المطحنة وبأسماء مختلفة لإعادة تدويرها بالمطحنة.
الغربلة.. قصص لا تنتهي
تتوالى المخالفات التي ترتكبها بعض المطاحن الخاصة في حلب، وحسب الشكاوى التي وصلتنا، فإنه عند قيام المطاحن بحرق نواتج الغربلة لوجود “فطر الأرغوت” فإنها تتم “شكلياً، ويتم حرق أتربة وحصى وقليل من النواتج وسرقة النواتج الحقيقية، ويمكن التأكد من ذلك بمقارنة أوزان السيارات بواقع وزن النواتج، وهي مرتفعة جداً، وهذا يدل على أن محتوياتها من الحصى والأتربة، وبطاقات الوزن موجودة يمكن التدقيق عليها، وعمليات التصفية التي تتم في المطاحن الخاصة تختلف عن تلك التي تحدث في المطاحن العامة، عبر نسبة الضريبة؛ فالمطاحن العامة تتجاوز نسبتها الضريبية أكثر من 100% لتصل إلى 105% أما الخاصة فلا تتجاوز 100% وهذا الفرق ناتج عن إضافة رطوبات القمح أثناء عمليات الترطيب، وهذا يشكل فارقاً كبيراً، فيتجاوز مجموع الاستفاده ما نسبته 15% . وإذا قلنا إنّ عدد المطاحن الخاصة في حلب يبلغ 8 مطاحن مع طاقة إنتاجية يومية تصل إلى 800 طن، أي 25 ألف طن شهرياً، فيكون حجم السرقات ما يقارب 3750 طن بعد ضربها بالنسبة العائدة من الاستفادة، والبالغة كما قلنا 15 % وبالمحصلة تصل قيمتهم السعرية إلى 4.5 مليار ليرة شهرياً!.
جواب المدير: الأمور كلها بخير!
“هاشتاغ” حمل ما بحوزته من معلومات ومعطيات إلى مدير فرع السورية للحبوب بحلب، عبد الجليل الحردان، الذي نفى وجود المشكلات السابقة “جملةً وتفصيلاً”، وأكّد ضمن تصريحات خاصة لـ”هاشتاغ” أنّ وجود المخالفات في عمل المطاحن يعدّ طبيعياً، وهو يحصل في المطاحن العامة والخاصة على السواء، حسب قوله، وبحسب عقود المطاحن الخاصة يمكن تنفيذ “العقوبة” حسب دفتر الشروط، في حال وجدت!.
أما بالنسبة إلى النقص الحاصل في الأوزان والكميات، فألقى الحردان باللائمة على الفلاح عند توزيع كميات الأقماح، بناء على الشروط التي وفّرها للقمح عندما كان في أرضه، من حيث السقاية وتأمين المازوت والسماد، نافياً تحميل مخبر السورية للحبوب أي مسؤولية، كون المادة يتم إجراء التحاليل عليها أكثر من مرة ومن قبل أشخاص عدة.
وأكّد مدير فرع السورية للحبوب بحلب أنّ الحديث عن الاختلاف في النسب المطلوبة لتسليم الأقماح للمؤسسة، تعدّ “فنية بحتة” ولها لجان خاصة تراقبها وتضبطها.
“نكايات شخصية!”
من جهته، لم يخفِ مدير عام السورية للحبوب عبد اللطيف الأمين، علمه ومعرفته بالمشكلات التي تحصل في فرع السورية للحبوب بحلب، لكنه وصفها بأنها “نكايات شخصية بين موظفي الفرع”.
وفي تصريحات خاصة لـ”هاشتاغ”، أشار الأمين إلى أنّ لجنة رقابية زارت فرع السورية للحبوب بحلب، وأكّدت وجود “أخطاء بسيطة” في سير العمل تمّ تجاوزها.
أمّا بالنسبة إلى عمل المطاحن الخاصة في حلب، فهي حسب قول المدير العام تسير “بشكل نظامي” وحسب العقود المتفق عليها مع المؤسسة، وفي حال وجود أي مخالفة يتمّ تسوية الموضوع حسب الاتفاق الموقّع بين السورية للحبوب والمطاحن الخاصة ودفتر الشروط الخاصة به.
ولم ينسَ مدير عام السورية للحبوب الإشارة إلى بعض الحوادث التي تحصل في عمل بعض المطاحن، وآخرها ما وصل إلى “هاشتاغ” حول إدعاء أحد أصحاب المطاحن الخاصة خلال اجتماع مع معاون مدير عام السورية للحبوب لشؤون الإنتاج خلال جولته الأخيرة في فرع المؤسسة بحلب، مع أصحاب المطاحن الخاصة المتعاقد معها في المحافظة، ووجود كامل المعنيين بفرع حلب، واتّهم أحد أصحاب المطاحن الخاصة الوزير ومعاون المدير بقبض مبالغ كبيرة من أجل ترك المجال وحرية التصرف أمام عمل المطاحن الخاصة في حلب “كما يحلو لها”، كما ادعى أحد أصحاب المطاحن الخاصة في الاجتماع، أنّه يدفع مبالغ شهرية لبعض موظفي الفرع بحلب، ولم يتخذ حسب المعلومات التي وصلت إلى “هاشتاغ” أيّ إجراء أو ردّ واكتفى بمغادرة الفرع.
ونفى المدير العام عند سؤالنا عن الحادثة الأمر جملةً وتفصيلاً، مع العلم أنّه خلال إعداد التحقيق تم تكليف معاون جديد للمدير العام عوضاً عن المعاون الذي كان حاضراً للاجتماع في حلب، والذي تمّ اتهامه من قبل أحد أصحاب المطاحن الخاصة بحصوله والمدير العام على مبالغ مالية كبيرة جراء “تسيير أمور فرع السورية للحبوب على مقاس المطاحن الخاصة”!.
شرح مفصّل للوزير!
مع تلك “الجعجعة” عاد الوزير سالم وأكّد وضع المطاحن الحكومية في حلب، والحاجة إلى وجود المطاحن الخاصة، بعد تدمير ممنهج قامت به كلّ من المجموعات المسلحة والإدارة السابقة لمؤسسة الحبوب على السواء.
وفي تصريحات خاصة لـ”هاشتاغ”، أشار الوزير سالم إلى أنّ اجتماعه الأخير في فرع السورية للحبوب مع موظفي المؤسسة، ثبت فيه وجود تلاعب خلال عملية نقل القمح من المراكز في الحسكة حتى تصل إلى حلب، كما ثبت حسب قول الوزير وجود قاذورات في كميات الأقماح المستلمة التي يجب أن تكون درجة أولى، لكن وحسب التحاليل التي تمّ إجراؤها تبيّن أنّها درجة رابعة.
وبالعودة إلى عمل المطاحن الخاصة، أكّد الوزير الحاجة لها في الوقت الراهن بسبب عدم وجود مطاحن حكومية في المحافظة، ووجود صعوبة في عملية النقل من محافظة إلى أخرى، والتي تتسبّب بمبالغ إضافية كبيرة، إضافةً إلى عدم ضمان الحفاظ على جودة المادة خلال عملية النقل، متمنياً أن تعود تلك المطاحن للعمل كما حصل في مطاحن دمشق، لكنّه عاد وأكّد أنّ الأمر في الوقت الحالي يعدّ صعباً للغاية، ويحتاج إلى ميزانيات كبيرة، ولافتاً إلى أن الوزارة استطاعت تأمين إعادة إقلاع وصيانة اثنتين من المطاحن الحكومية في حلب بتكلفة وصلت إلى أكثر من 3 مليارات، وسيتمّ العمل على إعادة صيانتها خلال الفترة القادمة.
أين مطاحننا؟!
في فترة الحرب على سورية كان للعديد من المطاحن الخاصة دور كبير في تأمين الدقيق للمخابز، حتى إنّه لبعض التجار دور أيضاً في رفد مؤسسات الحبوب بالدقيق اللازم لعمل الأفران ريثما يتمّ تأمين القمح عبر الحكومة، ولكن، لا يمكن أن تكون تلك المطاحن “صاحبة فضل” كما وصفها مدير السورية للحبوب.
ومع استمرار عقود المقايضة القديمة الجديدة التي يستمرّ توقيعها في المؤسسة السورية للحبوب، سؤال يتراود، عن مصدر الأقماح التي يتم طحنها ومقايضتها مع مؤسسة الحبوب، هل هي مستوردة؟ وإذا كانت مستوردة، هل يوجد بيان جمركي لهذه المادة لتوضيح مصدرها وبلد المنشأ؟.
وحسب المعلومات التي وصلت إلى “هاشتاغ”، فإنّ بعض أصحاب القطاع الخاص المتعاقدين مع المؤسسة بعقود طحن هم الأصحاب الحقيقيين للدقيق المقايض، وهنا المشكلة “فمن أين حصل هؤلاء على القمح والدقيق”، وهذا مايفسّر سوء نوعية الدقيق ونوعية رغيف الخبز؛ حيث أنهم يقومون بسرقة كميات من الدقيق التمويني وإضافة نخالة بدلاً عنها، حسب الشكاوى التي وصلت إلى “هاشتاغ”، وهو ما يفسّر سبب اهتمامهم بشراء كميات كبيرة من النخالة سواء من المؤسسة أو من السوق السوداء.
المشكلة ليست بتأمين الدقيق، الذي يعدّ من أولويات الحكومة حسب تصريحات المسؤولين، لكن، المشكلة في عدم تدقيق عقود الطحن والمقايضة لتجنيب خزينة الدولة خسائر إضافية .