هاشتاغ-نضال الخضري
أشهر قليلة وتودع سورية عاما جديدا من أزمتها، ومن اضطرابات كان من الصعب وصفها بشكل كامل؛ فهي مزيح من كل التفاصيل الاجتماعية والسياسية، وهي أيضا صورة عن عدم القدرة على فتح مجال حقيقي للحرية التي ظهرت بشكل عشوائي، ورسمت تجليات الفوضى التي تعيشها سورية بعد أن تقلصت الجبهات العسكرية.
ما قدمه الاضطراب قبل 12 عاما هو درس لفشل إظهار الحرية كمطلب يستند لقاعدة معرفية عريضة، رغم أن سورية لم تكن وحيدة في هذا الاختبار القاسي، فدورة الربيع العربي انتهت عند نفس نقطة البداية في مصر، وأكملت دورة الأزمات في تونس وكسرت اليمن وسورية، وقدمت نموذجا لعدم القدرة على جعل الحرية سياقا ثقافيا بامتياز.
كل المطالب يمكن أن تكون محقة، وهي أيضا قدر الشعوب التي تطور احتياجاتها، لكنها في نفس الوقت تحتاج إلى حالة من التجاوز المعرفي، وجعل الحرية مفهوما لا يكسر سوى قواعد السكون فقط، ولأن تاريخ الحريات في العالم قصير فإن التعبيرات عنها خطرة بالعموم، ويصعب جعلها سياقا ثقافيا خصوصا في تراث الشرق الأوسط، وفي معارفه المعطلة منذ ظهور السلطنة العثمانية.
في عام 2011 كانت سورية تحتفي بتلوين من طيف الشباب الذي واكب التواصل المعرفي عبر العالم، وهذا الجيل الذي شكل عصب الاضطرابات اختفى سريعا لصالح حالة عنف وتحريض دولي وإقليمي، وربما نحتاج لدراسات معمقة حول هذه الآلية لكن الانسحاب الذي سجلته الشريحة الشابة تجاوز من كان موجودا في الاضطرابات، فظهر الانزياح السريع للمورد البشري السوري نحو عالم يمنح الحرية والمسؤولية في آن.
خسرنا في الاضطرابات الأجيال الشابة، وفقدنا أيضا الرهانات على “الحربة” كمفهوم مطلق لا يترتب عليه واجبات، ورغم أن تقييم تجربة الاغتراب تبدو مبكرة لكنها في نفس الوقت قدمت وعبر بعض الأمثلة درسا قاسيا لكل السوريين، فهي تجربة “الحرية” المرتبطة بكل مفاهيم الحداثة، وليس بحالات زرع الفوضى كحل وحيد في المواجهة مع الآخر.
بعض أحياء دمشق توحي بعد سنوات الحرب أننا مزروعون بنفس النقطة، حيث تخلق صورة لمزيج صاخب بثقافة أوروبية أو بأوهام ثقافة تكسر العادات، ويكفينا الابتعاد أمتارا حتى نواجه النقيض حيث تركت الحرب مساحات كارثية في حياة المجتمع، فصور التحرر من الحرب لا تختلف عما حدث عام 2011، فكل الحريات منتهية الصالحية أمام التناقضات التي تظهر في المدن السورية.
السردية السورية اليوم هي مفاهيم متسرعة ولدت بشكل قيصري، ابتداء من “المجتمع المدني” والمدارس الأهلية بمناهج أجنبية، وصولا لأوهام انتهاء الحرب أو التعافي المبكر، فالحرب باقية بمفاهيمنا المتهالكة أو المولودة على عجل، بينما في المغتربات هناك سوريون لا تعرف هل سيخلقون عصبية خاصة كما فعل قبلهم الصينيون على سبيل المثال، أم أن الحرية المنتهية الصالحية ستستمر وتسرع باندماجهم خارج تاريخ الحرب التي دفعتهم بعيدا.
هذا الرهان عاشته أجيال سابقة في مرحلة “السفربرلك” أو غيرها، وفي النهاية فإن السوريين بارعون في الاندماج وخلق قطع زمني مع مرحلة ما قبل الاغتراب.