هاشتاغ _ نضال الخضري
مأزق جديد يجتاح ساحتنا المعرفية مع فورة الذكاء الصناعي الذي يبدو وكأنه عالم من اللامعقول، حيث ننظر ربما بعيون القرن العشرين إلى “القدرة” التي باتت بيد الجميع، فهو عالم ربما ينقلنا إلى الكثير من المخاطر لكنه يصبح واقعا ويهدد مساحة كبيرة من سوق العمل، لكن الذكاء الصناعي ليس عالما يخص نخبا بل فضاء ربما يقتحمه شعراء مغرمون بالشعر الجاهلي، أو من يستوطن عقله التراث منذ معركة مرج دابق وحتى اليوم.
هناك “عدالة معرفية” يوفرها الذكاء الصنعي، فمنصاته تتيح التعامل مع مختلف المجالات دون العودة لبعض التقنيين، ويؤمن أيضا شكلا تعليميا حواريا بين من يستخدمه والذكاء الصناعي الذي يولد معلومات بشكل دائم سواء عبر الشبكة، أو من خلال التعلم الذاتي الذي يشكله هذا الذكاء.
في المقابل فهو قدم مجالا في سوق العمل لشريحة جديدة قادرة على التعامل مع برمجة التطبيقات وإيجاد الخوارزميات، ومقابل هذه المعرفة هناك طبيعة استهلاك مجهولة لا نستطيع تقدير ما ستحمله على الأخص في دول لا تشارك في خلق المعرفة، فالمجتمعات التي طورت الذكاء الصنعي ربما قادرة عبر المؤسسات على إيجاد آلية أو أرضية يمكنها إعادة التوازن في مختلف المجالات.
قبل ثلاثة عقود تقريبا واجه مجتمعنا المستهلك لنتائج المعرفة ثورة المعلومات، وربما كان الأمر أكثر من مواجهة لأن “معرفتنا” المغرمة بـ”البيان”، والصور المخبئة في المخيال الاجتماعي تبحث عن فردوس مفقود كسره هذا الذكاء، واليوم هناك عالم مركب في مواجهة ثقافة توقفت ربما منذ انتهاء زمن النهضة في النصف الأول من القرن العشرين، فنفس الذكاء قادر على إنتاج فتاوى بعقلية ابن تيمية على سبيل المثال، وكتابة معلقة بنفس شعرية امرؤ القيس.
في الدول المنتجة للذكاء الصناعي لا يشكل أي من الأمور السابقة أزمة جوهرية، فثقافتهم انتقلت نحو فضاء مختلف بينما تبدو رموز ثقافتنا في منافسة مع ظهور استنساخ جديد لها، فهناك تجاوز لـ”عبقرية” الماضي الذي يعيش في داخلنا، وكافة المرجعيات المعرفية في عالمنا تقف أمام معركة ضمن ثقافة متهالكة.
من لم يستثمر المعارف لإبداع الذكاء الصنعي يقف اليوم أمام تحدٍ وجودي حقيقي، فالسنوات القادمة هي استثمار في هذا الذكاء للتثبت من مصداقيته أو بالأحرى موثوقيته على المستوى المعرفي، في المقابل سنفقد كمجتمعات الكثير من “المرجعيات” وستتبدل بنية سوق العمل، وربما بشكل يشابه اجتياح المكننة لبلداننا، فانقرضت حِرفٌ أو تلاشت لتصبح فولكلورا، فكيف يمكن أن نستقبل الأزمنة القادمة؟
وفق الظروف التي تحيط بنا نحن مازلنا في تهاويم الصراعات المغرمة في خلق الاستقطابات، واحتكار “الحق” و “المعرفة” في زمن أصبح فيه الأمران حالة نسبية بشكل كبير، فعلومنا حتى اللحظة لم تبدأ بخلق قواعد البيانات الضخمة واستثمارها بشكل مفيد، وهذا ما تكشفه منصات الذكاء الصنعي التي لا تجد محتوى عربي يمكن ان تستند إليه بشكل واسع.
نحن لسنا أمام فجوة معرفية كما كنا سابقا بل أصبحنا في عالم آخر قادر على الادعاء بأن يبهر العالم بمهرجانات، لكنه في الحقيقة يستهلك نفسه لصالح عالم آخر علمه حقيقي وليس ظاهرة إعلامية.