هاشتاغ _ غيداء الخالدي (عمّان)
أبٌ يسخّر أطفاله الثلاثة (تحت 10 سنوات) للعمل بمهنة التسول، بالرغم من أنه يحصل على راتب تقاعدي مقداره 400 دينار، ويمتلك بقالة وسيارة شحن.
هذا الأب ليس الوحيد الذي يجبر أبناءه على التسول. إذ يتجول في الشوارع الأردنية نحو 7981 طفل متسول تحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف، وبثياب ممزقة ومتسخة في فصل الشتاء.
يمد هؤلاء الصغار أيديهم بأطباق بلاستيكية صغيرة أو علب صفيح فارغة أملا في الصدقات وجني المال، معرّضين أنفسهم للأمراض والإصابات أو حتى الموت في حوادث السير، عدا عن الإساءات البدنية والنفسية والجنسية التي تقع عليهم، فكيف ستؤثر جميع هذه التراكمات على الصحة النفسية لهؤلاء الأطفال ؟
يقول اختصاصي الطب النفسي الدكتور خالد بني هاني: سيعاني الطفل المتسول من عوامل اجتماعية تفقده ثقته بنفسه تبدأ من الإهانة عبر التقليل من قيمته الإنسانية بين الناس وانتقاص من صورته وحضوره الاجتماعي وحرمانه طفولته من قبل المجتمع، وسيعامله كل من حوله كشخص صاحب وصمة وبعنف، وستؤثر هذه العوامل نفسيا على الطفل، خاصةً على مستوى الذكاء الذي سيتراجع لديه، لترافقه حالات اكتئاب وقلق وتوتر عام من الممكن أن تصل للانتحار.
ويحذر بني هاني من أن المشاكل النفسية التي يتعرض لها الطفل المتسول ستغير سلوكياته وتصرفانه جراء اكتسابه سلوكيات عنف تؤثر على محور حياته كطفل، ومن الممكن أن يكتسب سلوكيات إدمان العقاقير الطبية أو المواد الطيارة مثل شم ( النفط أو الغراء) والتي تؤثر على الدماغ والنمو الجسدي والعقلي ومستوى الذكاء للطفل، وستصيبه بأمراض نفسية خطرة مثل (فرط الحركة واضطرابات المزاج ) أو استغلاله لتوزيع بعض المواد المخدرة، و سترافقه سلوكيات غير أخلاقية مثل تعلم التحرش بالفتيات أو بالجنس المشابه له، ومن المؤكد أن يتعرض الأطفال المتسولين للتنمر أو للاستغلال الجنسي سواء كانوا ذكورا أم إناثا، ما سيؤثر سلبا على عدة جوانب نفسية في شخصيته خاصة مع تقدم العمر.
وبحسب الطبيب النفسي فإن عدم وجود الطفل مع مقدمي الرعاية النفسية من عائلة تهتم به ومدرسة ومجتمع سواء أقارب أوأصدقاء، وحرمانه من جميع المعايير التي لها علاقة بالطفولة كالتعلم واللعب وغيرها من الأمور، ستجعل منه إنسانا كان يجب أن يكون شخصا ذو علم وثقافة ينفع المجتمع، بينما يتحول إلى شخص سلبي وغير اجتماعي وكارثة على المجتمع، ومن الممكن أن يصبح مجرما أو شخصا منحرفا يقوم بالسرقة أو النصب والاحتيال.
ويشير بني هاني إلى وجوب فرض بعض القيود القانونية على الأهل لأن الطفل المتسول غير مسؤول عن تصرفاته وفي كثير من الأحيان يجبر على العمل بالتسول.
وشدد على ضرورة وجود تقييم شامل نفسي للطفل في دور الرعاية، والاهتمام بتقديم الرعاية النفسية لتعزيز ثقة الطفل بنفسه وتقوية شخصيته والتحسين من الوصمة التي نشأت نتيجة قيامه بالتسول، مشيرا إلى ضرورة إكساب الطفل مهارات التعلم و طريقة التواصل مع أقرانه في المدرسة لأن الطفل خلال التسول يصبح فاقد لجميع هذه القيم .
قنابل موقوتة
أصبح للتسول جذور قوية خاصة في الأردن وتشير الأرقام الى ان ارتفاع عدد المتسولين تحت السن القانوني لعام 2021 الى 7981 متسول مقارنة بسنة 2020 التي بلغت 2413 متسول.
وينبه دكتور علم النفس في جامعة اليرموك، فراس الخالدي، إلى أن المتسول هو قنبلة موقوته في المستقبل، فالتسول يعد مشروعا لأشخاص غير أسوياء نفسيا، والطفل الذي ينشا نشأة متسول ويتعرض للعديد من التجارب المؤلمة في وقت مبكر من حياته لن تكون لديه شخصية متزنة قادرة على اتخاذ القرار، بل سيذهب باتجاه إشباع حاجاته بطريقة خاطئة غير مقبولة اجتماعيا، ومن الممكن أن يقدم على السرقة أو على الاعتداء المسلح أو تقديم تنازلات على حساب أخلاقه لتحقيق مكاسب خاصة به، فلا بد من إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية للطفل في الوقت المناسب، وبكل مرحلة من مراحل العمر يمر فيها سواء طفولته (المبكرة، المتوسطة، المتأخرة ) حتى يدخل بالمراهقة، وهذه ضرورة يجب أن تلبى من الأسرة والمجتمع حتى ينشأ نشأة جيدة ويكوّن بنية نفسية متماسكة ويطور قدراته ومهاراته ويصبح فعالا في المجتمع، فالطفل المتسول يحرم من جميع هذه الفرص ومن إشباع الحاجات النمائية في كل مرحلة من مراحل حياته.
ويؤكد الخالدي أن التسول مشكلة اجتماعية أخلاقية ونفسية أكثر من مادية، تحرم الطفل من التعلم ومصادر الرعاية والعناية، ويفقد الطفل فرصته للتفاعل مع الأطفال الآخرين لينمي شخصيته، فاستمرار تعرضه للتعنيف أو الاعتداء الجسدي والجنسي أو الاستغلال في الشارع ينتج عنه طفل مأزوم أخلاقيا، ومن الممكن أن تصيبه بعض الاضطرابات الشخصية مثل القلق والتوتر والعدوانية، أو يؤذي الطفل نفسه لأنه وصل مرحلة اليأس الكامل، خاصة عندما تكون لديه الرغبة في التغيير وأن يعيش حياة افضل ولكن طريقة التنشئة الأسرية لا تساعد على ذلك .
العبودية الحديثة
تقول دكتورة علم الاجتماع، الباحثة في علم الجريمة سوزان الشمايلة أن ظاهرة تسول الأطفال في المجتمع الأردني أخذت تفرض خطورتها وتهدد أمنه وسلامته، فهي ظاهرة تنتشر في الأسر التي تعاني من الفقر والبطالة والتفكك الأسري والطلاق، مما ينتج عنه تشرد الأطفال وممارسات غير قانونية في ظل غياب رقابة الأهل، أو قد يجبر أحد الأبوين الطفل على التسول من خلال بيع المناديل الورقية أو العلكة أو طلب المساعدة بأسلوب وكلمات الشفقة والرجاء والدعاء وقد ينتهي بهم الأمر إلى التمثيل بالتشوه الجسدي.
وتؤكد الشمايلة أن هذا يساهم في انتشار وارتفاع معدل الجريمة، ذلك أن التسول يضع الأطفال في مواقف تجعلهم يقعون أو ينضمون إلى جماعات وعصابات تمتهن السرقة أو القتل أو عمليات النصب والاحتيال وبيع المخدرات والإتجار بالبشر من خلال استغلال عواطف طيبة الناس لتحقيق أهدافهم.
كما قد يؤدي التسول إلى فرض رغبة لدى المتسولين بالانتحار لأن المخاطر النفسية التي يتعرض لها الأطفال المتسولين من حالات العنف والتهميش والنبذ وقلة الاهتمام وإهانة قيمتهم الإنسانية وحرمانهم من طفولتهم وفقدانهم الحق كإنسان للعيش برفاهية، تؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس واضطرابات القلق والاكتئاب لتصل إلى اتخاذ القرار أو الرغبة بالانتحار في الحالات المتقدمة.
وبحسب التقرير السنوي لمجلس حقوق الإنسان لعام 2020 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة، الذي خصص تقريرا معمقا حول (الصحة النفسية والعنف ضد الأطفال ) فإن “البالغين الذين تعرضوا لأربع تجارب سلبية أو أكثر في مرحلة الطفولة قبل بلوغ سن 18 عاما، يحتمل أن يكونوا أكثر عرضة بواقع 7 إلى 8 مرات للضلوع في أعمال عنف بين الأشخاص، وبواقع 30 مرة أكثر عرضة لمحاولة الانتحار من البالغين الذين لم يتعرضوا لتجارب سلبية في مرحلة الطفولة”
ضحية بحاجة لحماية
الناطق الإعلامي باسم وزارة التنمية الاجتماعية أشرف خريس يؤكد ان مركز المتسولين يعتبر الطفل المتسول ضحية ويحتاج للحماية والرعاية.
ويخضع الطفل المتسول داخل المركز لعدة برامج تعليمية واجتماعية ونفسية، ويتم عمل دراسة اجتماعية لكل طفل عن طريق اختصاصيين اجتماعيين ونفسيين ومراقبي سلوك للخروج بمجموعة من التوصيات سواء كانت إلحاقه بمدرسة أو تقديم خدمات اجتماعية لعائلة الطفل، وغيرها من الأمور التي تعنى بمصلحة الطفل، وتتم الرقابة بعد خروج الطفل بموجب الدراسة الاجتماعية الخاصة التي تمت لكل طفل.
ويشير خريس إلى أن التعامل مع الطفل المتسول يبدأ من لحظة ضبطه، ويُحال الطفل لقاضي الأحداث بموجب القانون ليقرر أما تكفيله أو يحول إلى مركز الحماية والرعاية لمدة تتراوح من يومين لغاية عشرة أيام.
ويوجد في الأردن مركزين للحماية ورعاية المتسولين، أحدهما للذكور في مادبا والآخر للإناث في الظليل.
وبحسب وزارة التنمية الاجتماعية، فإن الكثير من المتسولين يدّعون أن سبب تسولهم هو الحاجة بأشكالها المتنوعة، ولكن يتبين عند ضبطهم أن عائلاتهم ليست محتاجة، لا بل تمتلك عقارات ورواتب ومصادر دخل تكفي حاجتها وتزيد.
ضحايا استغلال
عرفت المادة (389) من قانون العقوبات رقم (10) لسنة 2022، التسول كالتالي: “من استعطى أو طلب الصدقة من الناس متذرعا إلى ذلك بعرض جروح أو عاهة فيه أو اصطنعها أو بأي وسيلة أخرى سواء أكان متجولا أم جالسا في محل عام، أو وجد يقود قاصرا دون السادسة عشرة من عمره للتسول وجمع الصدقات أو يشجعه على ذلك”.
وتؤكد المحامية المتخصصة بحقوق الإنسان هالة عاهد أن الطفل الذي يتسول هو ضحية إهمال واستغلال من قبل الأهل الذين يدفعونه للتسول؛ وبالتالي يصبح إجراء إعادة تسليمه للأهل خطرا عليه ويدفعه للتكرار، وبدل أن يُعاقب الأهل على تعريضه للخطر وإهماله واستغلاله، يعاقب الطفل ثم يتم تسليمه مجددا لهم .
وتوضح عاهد بأن قانون حقوق الطفل الذي أقر مؤخرا، حظر صراحة تعريض الطفل للاستغلال الاقتصادي بما فيه التسول، وقانون منع الإتجار بالبشر اعتبر التسول المنظم جريمة إتجار بالبشر، وينبغي أن يتم التفريق بين دوافع التسول عند الأطفال، فإذا كان من يتسول برغبة ذاتية بسبب نقص المصروف أو عدم قدرة الأهل على الوفاء بمتطلباته فإن التدخل ينبغي أن يكون مختلفا عمن يجبره أهله على التسول، فهذا وحسب القانون إن لم يُعدّ تسولا منظما ويعاقب عليه الأهل بجرم الإتجار، فعلى الأقل يحتاج الطفل للحماية، ولا ينبغي السماح بعودته للأسرة ذاتها.
وتضيف: قانون الأحداث، وتحديدا المادة 33 حددا الحالات التي يعد فيها الطفل محتاجا للحماية والرعاية، ومنها إذا كان يستجدي أو بائعا متجولا.
كما رتب القانون عدة إجراءات ينبغي اتباعها مع الحدث المحتاج للحماية، منها أن تأمر المحكمة والده أو الشخص الموكل برعايته أو وليه أن يرعاه ويعتني به بصورة لائقة وتوقيع تعهد بهذا، أو تقرر المحكمة إحالته إلى دار رعاية لمدة لا تزيد عن سنتين.