هاشتاغ _ ناظم عيد
لم يكن احتفاء السوريين بوجبات كنتاكي منذ حوالي عشرين عاماً – زمن الانفتاح على “المصراعين” – مجرد مشهد من مشاهد وقوعنا المتكرر في غواية العولمة السريعة، التي تصلنا عادة على عجل..بما أن “كنتاكي” هي الصيغة الأميركية المعدلة قليلاً لوجبة البروستد المحلي..بل على الأرجح كان السر في أن الحدث ذي صلة بما يملأ البطون، في مجتمع شرقي تستحكم به الحالة الحسية..والدليل أن افتتاح مطعم في دمشق القديمة أو الجديدة مازال حدثاً يتصدر غالباً اهتمامات الكثيرين، حتى من غير ذوي الملاءة ومؤهلات ارتياد المطاعم ..
هذه ليست تهمة على أي حال بما أن معظم خصوصيات هذا الشرق وعلاماته الفارقة وإنجازاته، تندرج في سفر الطعام وسباق المطاعم و المطابخ على إيقاع سباق التسلح العالمي أو سباق التكنولوجيا الذكية.
لا بأس فالمهم أن نسجل بصمتنا في مضمار ما..حتى ولو لم نفز في السباق، وكم هو عبقري أول من بشّر بأن “شرف المحاولة” يكفي.
إلّا أن المدهش والمريب بالنسبة لنا نحن في سورية وفي سفر “فتوحاتنا الغذائية”، أن شغفنا بالتذوق والوجبات وقف عند حدود القشور السطحية -السطحية جداً- أي نهتم باللمسة الأخيرة في سلسلة الأمن الغذائي..وما يدفع به هذا المفهوم إلى موائدنا..فالبيضة تحجب أي تساؤل عن الدجاجة..والحليب والجبن يكبح مخيلتنا عن الاستفسار عن حال البقرة..ومثل ذلك سلسلة المنتجات الزراعية كافة بشقيها النباتي والحيواني؟!!
صفّقنا لـ”الكنتاكي” وأكلنا البروستد والمسحب والمشوي..لكن ربما تكفلت التخمة بإنتاج بلادة ذهنية خطيرة، صفعتنا بها وحالت دون أن نوفق باجتراح حلول لأكبر مشكلة تتوعدنا بأن ندخل في دوامة خواء وفاقة للبيضة والتقشيرة معاً، بل لكل ما يندرج في عداد أطباق الأمن الغذائي السوري..نسينا الأعلاف ..أعلاف الماشية وقد يكون علينا أن ننسى مرغمون “أعلاف” البشر التي نحب تسميتها طعام بكل كبرياء، إن بقينا في حالة استرخاء أو ارتباك، فالنتيجة واحدة.
أليس عجيباً أن تكون الأعلاف أكبر مشكلة تواجه قطاع الثروة الحيوانية في سورية، في بلد الزراعة والميزات والمقومات التي يفترض إلا تُقاوم، بلد بات يعاني من عدم القدرة على كفاية قطعان ثروته الحيوانية، ويُصر مسؤولو القطاع دوماً على تكرار مصطلح “ثروة”.. وبعضهم يغنيّها بألحان مختلفة؟!!
نسميها ثروة ونفاخر بأعدادها التي لم نوفق بتعدادها حتى اليوم بدقة، بسبب الاختلالات الصارخة التي تُمنى بها…نفوق وضياعات وتخلص من “النعمة”ذبحاً أو تهريباً لأننا لا نملك ما يضمن لها البقاء و الاستمرار..
لدينا مساحات شاسعة من الأراضي التي تبقى بوراً، بسبب عدم توفر ما يلزمها من بذار وسماد ووقود للحراثة والسقاية، وغير ذلك من مزاعم ..دون أن نهتدي لخطة مدروسة لزراعة هذه المساحات بأصناف علفية لا تحتاج لا سماد – هي بحد ذاتها سماد- ولا سقاية ..فقط تحتاج لمن يزرع والسماء تتكفل بالباقي ..
الصنف هنا ليس كنتاكي ولا همبرغر…بل فصة وباقية وبازلاء وسواها من نباتات “الآزوت” التي كان يزرعها الفلاحون لتدعيم أراضيهم، واكتناز الأعلاف لماشيتهم في فصول القحط والحاجة..
كأننا حاولنا توطين تقاليد جديدة في الزراعة -من جملة ما حاولنا- لكن حين أخفقنا….أخفقنا أيضاً في استعادة ذاكرتنا القديمة، واسترجاع تقاليد تكفلت يوماً ما باستدامة ثروة و قطعان وقطاع طالما فاخرت به البلاد.
لا نظن أننا نحتاج ابتكارات وهرش رؤوس لإيجاد مخرج لما أوقعنا به مواشينا..ولا استعارة دراسات وتجارب “بلاد الخواجات” ..بل تكفينا العودة إلى سفر تقاليد زراعتنا القديمة، ومراجعة التدابير التي أنقذت لقمة البلاد والعباد وأرزاقهم..
كلوا واستمتعوا بالوجبات السريعة من كل صنف وطعم ولون..لكن الماشية لا تحب طعم كنتاكي ولا كوردون بلو ولا الهوت دوغ..فباقة فصة أو باقيّة تكفي..
• هامش: في مواسم الأمطار تكون نسبة الإنبات العشبي كثيفة جداً..وتُترك لليباس لتتحول إلى وقود للحرائق التي تأكل الأخضر واليابس…رغم أنها مادة علفية جيدة إن تم حصادها وكبسها في ” بالات” وتخزينها للشتاء..لكننا لم نفعل ..رغم أن الأوربيون كما الفلاحين في الريف السوري كانوا يلجؤون إلى هذه الطريقة.